خِـطَـابٌ سٍـيَـاسٍـيٌّ يَـصْـنَـعُ الـتَّـارِيـخَ..!

إذا كانت السياسة من وجه تتيح صناعة التاريخ، فإنه من وجه آخر، يمكن القول أن التاريخ نفسه يعد حقلا خصبا لممارسة السياسة!؟

هذا الطائر “الجدلي” قائم، ولا يمكن نفي إحدى جناحيه بالمرة، بل هناك تفصيلات أخرى تكمن داخل التفصيلات الكبرى، كيف ذلك؟

أولا، صناعة التاريخ يمكن أن تجاوز قرب المدى لبعد المدى، فإذا كان البعد الحقيقي للخطاب السياسي الغرض منه هو الإقناع والقبول والإيمان، فإنه من الضروري أن يعرف نتيجتان: النتيجة الأولى تحدد صناعة هذا الخطاب للمدى القصير للتاريخ، وذلك كالخطاب السياسي إبان الحملات الإنتخابية، الذي يرسم تاريخ الوصول إلى كرسي الحكم.

أما النتيجة الثانية فتحدد صناعة هذا الخطاب للمدى الطويل للتاريخ، وذلك كخطابات معاوية بن أبي سفيان وأبنائه في فترة حكم بني أمية لما بعد الخلفاء الراشدين، والتي نشهد أثرها إلى يومنا هذا، من خلال الصراع بين السنة والشيعة.

إذا ما استقرأنا الطرح السابق، نجده ناقصا لا محالة! فقد يقول قائل مشاغب: كيف للسياسة أن تصنع التاريخ؟ وقد وجد التاريخ قبلها؟!

إن فلسفة السؤال من حيث صياغته صحيحة، ولكن أريد بها “باطل”، لأن الأحداث هي التي تشكل لنا تاريخا معينا حتى منذ بداية الخلق، وذلك عندما تمت واقعة اصطفاء آدم من طرف رب العزة، وهذا الحدث أنتج لنا خطاب الملائكة الذي قيل فيه: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)؟

إذن، الحدث هو شرارة إنتاج الخطاب بشكل عام، والخطاب السياسي على وجه خاص، ومنه فممارسة السياسة تشتغل وفق نسق من الأحداث المتتالية والتي تشكل لنا التاريخ.

ضربنا مثالا بخلق آدم وخطاب الملائكة، وهنا كنا مجحفين بحق، لأن الخطاب السابق هو خطاب مقدس ورد في كتاب مقدس، لذلك سنصحح ونضرب مثالا بالخطاب السياسي حتى نفهم الفكرة بشكل أوضح، رضوخا للمبدإ الديكارتي “الوضوح”.

عندما خرجت 20 فبراير في شوارع المغرب تنادي بالإصلاح كسائر البلدان “العربية”، فإن هذا الحدث شكل لنا خطابا سياسيا يؤثث للتاريخ القادم ويرسم معالمه، وهو الخطاب الملكي لــ 9 مارس، ونحن الآن نعيش هذا التاريخ ولامسناه عن قرب.

عندما بدأ أدولف هتلر بغزو الدول المجاورة لقي معارضة جمة، فجعلته هذه الأحداث يروج لخطاب سياسي يساعده على قضاء مآربه من جهة، ويحاول تقليل معارضيه من جهة ثانية، فقال لهم: هذه ليست إمبريالية استعمارية، بل هذا توسع حيوي لابد منه!

وفعلا سكت الكثيرون وواصل ممارساته، والتاريخ معروف بعدئذ.

من كل هذا، نستنتج أن البعد الحقيقي للخطاب السياسي يكمن في استغلال السياق العام والظروف الراهنة، وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون السياسي واعيا بما له من أثر في صناعة تاريخ معين! بل إن تلقائية ممارسة الخطاب السياسي عنده لا توحي له بأكثر من المحدودية وضيق الأفق، ولا عجب في ذلك، فهو يريد من خطابه مصلحة آنية، غالبا ما تكون وصوله إلى السلطة أو بقاؤه فيها.

ممارسة السياسة والخطاب السياسي حتمية ضرورية تاريخية وإنسانية، لا يمكن الحياد عنها، والسياسة والتاريخ مترابطان ملتحمان يستحيل فصلهما بالجملة.

نعتقد أن هذا الإطار الذي أوردنا يمثل توجها عاما، دون تحميله ما لا طاقة له به، لكن بالمقابل، هذا لا يعني أنه يضمن الحقيقة المطلقة، بيد أن عدة إشكالات أخرى لو دخلت عليه قد تغير معالمه بكل تأكيد، كيف لا والخطاب السياسي تغيره الأحداث! فكم من ساسة تغير خطابهم 160 درجة قبل الثورات الأخيرة وبعدها! والأمر معروف لا يحتاج لتفصيل.

ومثال هذه الأسئلة قد يتمحور حول: ما هو التاريخ؟ هل الخطاب السياسي ينتج الحدث؟ أم أن الحدث ينتج لنا الخطاب السياسي؟

مثل هذه الأسئلة وأخرى، تبقى محط أخذ ورد في إطار نقاش حي، ولا يمكن الحسم فيها بفكر واحد أو رأي متفرد أو حكم سائد، وإلا كنا هنا نخدم طرح ممارسة الوصاية الفكرية على العقول، وكيف نمارسها والله جل جلاله لا يمارسها على عباده في دينهم، بدليل: (ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)؟!

راديو تطوان- نور أوعلي

طالب باحث بماستر القانون ووسائل الإعلام بتطوان

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.